الثلاثاء، 15 يوليو 2008

النكتة السياسية ودورها في تعرية النظام المقبور


لطيف قاسم

تعددت الاساليب والطرق التي استخدمها الشعب العراقي في مقارعة النظام البعثي البائد ، ففي بدايات الصراع مع النظام كانت "الكتابة على الجدران" واحدة من اسرع واسهل الطرق للتعبير عن الرفض والمعارضة لذالك الظلم الواقع على الشعب العراقي من قبل جلاديه ، وتطور الامر فكان "المنشور" المكتوب بخط اليد في اكثر الاحيان وسيلة اخرى لبث الوعي الجماهيري وفضح النظام الطاغي ، ثم "الجريدة والمنشور المطبوع "والتي كانت تاتي من خارج الوطن ويتم نشرها بسرية تامة بين اوساط المجتمع العراقي ، في الوقت الذي كان من غير الممكن بل من المستحيل اصدار جريدة او منشور داخل العراق وكانت هناك محاولات ذهب ضحيتها المحاولين بها نتيجة الضغط الامني الذي كان يمارسه النظام آنذاك ، واخيرا كان "الكفاح المسلح "بعد ان لم يترك النظام أية فرصة سلمية لعمل المعارضة العراقية في الساحة السياسية ، واصبح العمل العسكري مفروضا على القوى المعارضة بعد ان استباح صدام دماء الشعب العراقي من الشمال حتى الجنوب .

وواحدة من اساليب المعارضة والمقارعة لذلك النظام المتجبر وبعد ان وصل الامر حد لايطاق من الطغيان والتعسف بحق العاملين في الساحة السياسية المعارضة للنظام وخوف الشعب من ذلك البطش ومن باب (اضعف الايمان ) كانت ((النكتة السياسية)) والتي استخدمها الشعب العراقي كأسلوب من اساليب النقد أو التعليق او السخرية من شخصيات النظام ، أو ظاهرة معينه أو قرار سياسي معين ، وكانت النكته في ذلك الزمن المر فعلا تأمريا معارضا يشترك فيه "القائل والمستمع " يقلق النظام البعثي كما تقلقه العمليات العسكرية ويعاقب عليها كما يعاقب على الفعل العسكري فقد اعتبرها من الجرائم التي تمس امن البلد وتم محاكمة الكثيرين بهذا الخصوص ، وكانت هناك شعبة مختصة في كل الاجهزة الامنية تتابع انتشار النكته في الشارع العراقي ، وكانت تضع النكات المضادة لها ، لأن النظام كان يعتبرها دعاية سياسية - وهي كذلك في بعض جوانبها - كونها تفضح وتنتقد هذا النظام الخائف من كل شئ حتى النكتة .

ولا يظن البعض أن ((النكتة)) في ذلك العهد مجرد حكاية قصيرة تقال لتضحك الاخرين وحسب بل هي عمل واعي ومبرمج يهدف الى فعل سياسي مقصود ومحدد لتوعية الناس حول فعل ما صدر من قبل السلطة ، فقد كان الشعب العراقي مكبلا ومصادر الرأي والفعل ،ولايمكن له توجيه النقد الصريح ،وكما قلنا فقد تنوعت فعالياته السياسية في جوانب متعددة ابتداء من البندقية والمظاهرة المسلحة ومرورا بالتنوير بالمنشور والإذاعة وانتهاء بالتنظيم الحزبي السري ،وكانت النكتة في ذلك الوقت سريعة الانتشار والتأثير لكونها شفوية ،ومقبولة نفسيا ،ولأن المخاطرة فيها اقل من استخدام وسائل المعارضة السياسية الأخرى .

ولأن (النكتة السياسية) تتحرك في جانبين او اتجاهين ،السري والمعلن في ان واحد فهي صريحة لأنها تقال وتتداول وتنتشر بعلانية وان كانت محدودة ، وسرية لأنها فعل متواطئ عليه بين قائلها ومستمعها والذي سيصبح قائلها لاحقا ،ان جملة السلبيات والاخطاء السياسية وعمليات القمع وانتهاكات حقوق الانسان التي كان النظام يرتكبها كانت تحت رصد ومعاينة الوعي السياسي الجماهيري ، قبل ان تكون مرصودة من قبل الغالبية المغشوشة بالدعاية الاعلامية ، وبما أن ما كان يحدث له اتصال يومي بحياة الفرد العراقي فيحتم ذلك ان يكون له راي في جميع ما يحدث من مجريات سياسية ويخضعها للنقد والتحليل واطلاق الرأي واتخاذ الموقف ، وعليه فقد كانت النكتة رأيا في الوضع والظاهرة السياسية لأنها مارست وبوعي نقدا او استهجانا بهما ، وانها تصدر عن انسانا يعي الاخطاء ويفسر الظاهرة ،وبناءا على هذا شكلت النكتة جزءا من معارضته وعنصرا من عناصر التصادم مع النظام .

وابتكرت المخيلة الشعبية العراقية نكتا سياسية عن بعض شخصيات النظام البعثي المخلوع امثال (عزت الدوري) والملقب لديهم (عزوز أبو الثلج) صاحب النكتة المشهورة ((الفيل يطير)) أو عن (طه محي الدين معروف)الذي لايحل ولا يربط ولذلك فهو لا يلبس الحذاء (القيطان) ويرتدي (القبقلي ) دائما ،وحتى صدام بنكاتهم عن تنكره وتجواله ببغداد ايام الانتفاضة وحروبه البشعة ، ان فعل السخرية من هؤلاء قائم في النكتة الشعبية السياسية وهي وان بدت فطرية وعفوية ولكنها كحالة مسجلة في الرأي السياسي الجماهيري الواعي والمتنور.

وفي بعض الاحيان ربما يكون للسلطة دورا باستصغار هولاء للابقاء على شخصية صدام الرصينة والقوية والوحيدة التي تمتلك القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذه ، فتأتي النكات التي تنال من صدام كهجوم معاكس من الوعي الشعبي اتجاه السلطة ، وفي جانب اخر ربما اتخذت السلطة الحاكمة انذاك من النكتة السياسية سلاح للترويج لفكرة معينة او لطعن حالة تهدد استقرارها السياسي ، فكثير من النكات كانت تشاع وتطرح دون معرفة مقاصدها ، لأن الجماهير تعاملت معها كنكتة خارج الهدف السياسي ، ولاتعي تلك الجماهير انها ابتكرت من قبل خبراء موظفين في المؤسسات المخابراتية لتسخيرها كسلاح فعال حالها حال (الإشاعة) .

ولم تنسى النكته الاجهزة الامنية والاستخبارية القمعية ووسائل التعذيب التى كانت تمارس والمفارقات التي كانت تحدث بين السجين والسجان ، وتلك المحاكمات الوهمية التي تعرض لها الشعب العراقي ، فتتحدث احداها عن مدير الامن الذي ارسل بطلب (معلم الانكليزية) بناءا على طلب ابنته الضعيفة في هذه المادة ، وفي خضم الاعمال نسي هذا المدير المعلم وبعد سبعة ايام ، ذكرته أبنته بالموضوع وهو بدوره ذكر مساعديه بهذا فما كان منهم الاان قالوا "نعم سيدي المعلم اعترف بأشتراكه بالمؤامرة ) عجيب اية مؤامرة ، وماذا تعرض له هذا المسكين ليعترف على نفسة بامر لم يرتكبه مطلقا ، واخرى تتحدث عن مسابقة للاجهزة الامنية في العالم وقد اطلقوا لهم غزالا وطلب منهم جلبه بالسرعة الممكنة ، فجلبته المخابرات الامريكية بعد عشر دقائق ، والمخابرات الروسية بعد ربع ساعة وهكذا الى ان وصل الامر الى المخابرات العراقية وبعد اكثرمن شهر ذهبوا اليهم فوجدوهم ممسكين بالحمار ويضربونه بالكيبلات وهم يقولن له (اعترف وكول اني غزال) ، ودور هذه النكته واضح بفضح تلك الاجهزة وتعريتها من خلال انها تعتقل على الشبهة لابل تعدم على الشبهة .

وابتكرت المخيلة الشعبية وبالاعتماد على الموروث الشعبي العراقي والعربي والاسلامي انتاج النكات المضادة لصدام بالخصوص ، حيت تعرضت لدكتاتوريته وتهوره وسلوكياته المشهورة بالنقد والسخرية والاستهجان ولم تتمكن السلطة بكل قوتها وبولسيتها على تطويق النكتة ومحاصرتها لأنها ابتكار يومي ويتفاعل بسرعة ، فتم اخذ تلك القصص والتي تتحدث عن الطغات والمتجبرين وربطها بما كان يحدث وكذلك ربطها بصدام بالخصوص ، فقصة الوالي العثماني الذي جمع وجهاء ومرجعيات الشعب العراقي وعرض عليهم (عنزا) البسه عقال وطلب منهم معرفة الجالس امامهم ، فقال بعضهم انه (عنزا) فخطئه وغرمه مبلغ كبير من المال ، وجاء الاخر فقال له انه احد (الشيوخ) فخطئه ايضا وغرمه مبلغ كبيرا من المال ، وهكذا الى ان وصل لرجل حكيم منهم فقال له (هاك الغرامة اولا وهذا لاهو عنزا ولاشيخ انه غضب من الله انزل على ايدك ) ، والدلالة واضحة هنا ان الموضوع يخص صدام ونظامة الذي يستجبي الضرائب وبحجج واهية .

وحصلت مغامرات النظام الحربية المدمرة كالحرب العراقية الايرانية وغزو الكويت على نصيب كبير من الطرائف التي ناقشت واعترضت على الحرب وتداعياتها ففي الحرب الاولى والتي يئس الشعب العراقي من ايقافها وايقاف نزيف الدم الذي يتعرض له شباب العراق كانت تلك النكتة التي تتحدث عن جندي وشم على يده عبارة (قادسية صدام) فشاهده الرئيس صدام ، وقال له احسنت يابني ولكن اذا أنتهت الحرب ماذا ستفعل فقال له (اكص ايدي اذا خلصت الحرب) ، ومثلها المدفئة التي صنعها العراق وسماها (قادسية صدام ) ووضعوا لها مفتاح اشعال دون مفتاح اطفاء وعند اعتراض البعض قيل لهم ان قادسية صدام (اذا اشتعلت ما تنطفي ).

واخرى تتحدث عن شخص اشترى سيارة وذهب الى مديرية مرور محافظة (الكويت) المحافظة التاسعة عشر ، لوضع لوحات التسجيل الخاصة بتلك المدينة ولكن بعد ان عاد الى البيت اكتشف ان اللوحة تقرأ (عراق بحرين وليس عراق كويت) ، فعاد في اليوم الثاني الى شرطي المرور فقال له هذا انا اسف لقد اخطأت ووضعت لك لوحة السنة القادمة ، وفي هذا اشارة واضحة ان صدام كانت عنده اجندة لابتلاع كل دول الخليج لو تم له ذلك .

وجاء زمن الحصار الاقتصادي وما عاناه ابناء الشعب من حصار فرضه النظام على العراقين اضافة الى الامم المتحدة وانتقدت النكته تلك الفترة وكيف ان النظام يتنعم في خيرات البلد فيما ابناء الشعب يعانون الجوع والمرض والموت وتم تثقيف الشارع العراقي ان الحصار من النظام وانه استخدمه شماعة لتعليق اخفاقة بادارة الملف الاقتصادي ، فتذكر النكتة ان احد القروين جاء بخروف كبير لبيعه في بغداد وكان كبشا سمينا فسأله رجل الشرطة في سيطرة المدينة (ماذاتطعم هذا الكبش ليصبح هكذا )فقال له (اوكله شعير) فأوسعه الشرطي ضربا كيف تطعمه شعيرا ونحن في الحصار ، وهكذا جاء الى السيطرة الاخرى فقال لهم (اوكله حنطة)وضربوه ايضا وفي الثالثه كذالك وعند وصوله الى السيطرة الرابعة قال لهم (انالااوكله لاحنطة ولاشعير ولاتمن ،بل اعطيه مصروفة وهو الذي يأكل ) .

وعندما اصدر صدام امره بعدم استخدام المصطلحات الاجنبية ،جاءت النكته تتحدث عن ان صدام وفي احدى زياراته الى التصنيع العسكري سأل العاملين لماذا المعمل متوقف ؟ فاجابوه بأن (الستيم قليل ) فأمرهم بجمع الستيم من الاسواق المحلية ، وفي هذا اشارة واضحة على جهل القائد الضرورة وان تدخله بكافة المواضيع الا من باب الفرض والاجبار .

ربما نبتسم او نضحك عند تذكرنا تلك الطرائف والهزليات ، ولكن في الامر جانب مأساوي في هذا الموضوع وقد دفع العديد من العراقيين سنوات طويلة من اعمارهم في سجون البعث لمجرد انهم قالوا او سمعوا نكته ، وغير قليل من العراقيين خسر حياتة واعدم لأن النظام كان يعتبر الاول متأمر والاخر متستر علية ويجب ان يعدموا ، وتلك هي اكثر النكات مرارة وسخرية .


ليست هناك تعليقات: