الأربعاء، 9 يوليو 2008




المناهج التعليمية بين التغيير الشكلي والبقاء على المضمون

مادة التاريخ نموذجا ً

ياسين العطواني

إذا كان ثـَـمة قــِطاع او مرفق حيوي أن يشهد عملية تغيير واصلاح شامل في ظل الوضع السياسي العراقي الجديد ، فلا اعتقد هناك من هو أكثر أولوية من قطاع التربوية والتعليم ، وذلك لإسباب عدة منها، ما يمثله هذا المــُرفق الحيوي من أهمية قصوى على مستوى الفرد والمجتمع ، وفي تهيئة البنى التحتية لحاضر ومستقبل البلاد عموما ً، وايضا ً حجم الدمار والخراب الهائل الذي لحقت بمنظومة التربية والتعليم على امتداد اكثر من ثلاثة عقود. بعد ان كان النظام التربوي والتعليمي في العراق يــُعد من أفضل النظم التربوية في المنطقة ، ولعل ابرز ما يمثل هذا النظام هو قوة وتأثير المناهج التعليمية الدنيا والعليا ولكافة المراحل الدراسية. وقد جاء ذلك لتظافر جملة عوامل ادت الى هذه النتيجة الحتمية ولعل من ابرزها ذلك التراكم الحضاري والثقافي الذي ورثه العراق عبر تاريخه الطويل ، وكذلك نتيجة لتطور جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، كما كانت للمناهج التربوية الاولى والتي عرفت بقوتها وتأثيرها الفعال اثر في ذلك ، بحيث كنا نرى بعض الذين تخرجوا من المرحلة الابتدائية او المتوسطة قد عادوا الى مدارسهم كمعلمين اكفاء بعد المرور بدورات سريعة ومكثفة. والسؤال الذي يجب طرحة ، ما الذي حـّــل بالمؤسسة التعليمية خلال تلك الحقبة ، وكيف كانت تسير الأمور ، والسؤال الأهم يتعلق بمضمون الخطاب التربوي والمفاهيم التي كانت سائدة انذاك ؟ .

نستطيع القول ان بواكير تدهور النظام التربوي والتعليمي في تلك الفترة قد بدأ عندما حاول النظام فرض ايدلوجية محددة ، وزرع مفاهيم محددة في نفوس الناشئة في محاولة لتعزيز قبضة النظام على كل المرافق، كذلك مع مسلسل الحروب التي أقحم بها العراق، ناهيك عن تغلغل الأجهزة الأمنية والحزبية في كل المرافق التربوية والتعليمية بأعتبارها أهم مرفق حيوي يساهم في تكوين الأنسان وبلورة اتجاهاته ، ايضا ً التركيز على القطاع العسكري والأعلامي وجعله اهم من كل القطاعات الأخرى ومنها التربية والتعليم. وبالقدر الذي أفرغ المحتوى التعليمي من مناهجه المعرفية ، تم حشوة بشعارات حزبية ، ونصوص من خطب ووصايا مـُستهلكة ، وتأطيرة بالعناصر المشوهة والمتخلفة ، وهذا ما نتج عنه تدمير كل الأسس والمفاهيم التربوية العريقة والمتوارثة .

لقد علـُـقت الكثير من العلل بوضع التربية والتعليم خلال تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق ، وهي من التشعب بحيث لايمكن الالمام بتلك المتاهات ، الا أننا سوف نكتفي هنا بالتركيز على جانب حيوي ومفصلي والمتعلق بوضعية المناهج التعليمية ومالحق بها من دمار شامل ، وسنختار من بين تلك المناهج ، مادة التاريخ ، والتي كانت المُستهدف الأول من بين المواد الأنسانية الأخرى، بحكم الأهمية القصوى لمادة التاريخ في تربية النشأ ، وتأثيرها في أوساط المجتمع .
مادة التأريخ بين التشويه والتزوير
يحتل التاريخ كعلم منزله رفيعه من بين العلوم الانسانية المتعددة ، على اعتبار أن هذا العلم يبحث في تاريخ التطور الشري والحوادث التاريخية بمختلف أبعادها الانسانية

والاجتماعية والحضارية للأستفادة منها حاضراً ومستقبلاً . وقد ادرك النظام السابق

هذه الخاصية للتاريخ ، فأهتم بهذه المادة أهتماماً كبيراً وصلت الى درجة الهوس ، ولعل مادة التاريخ ولمختلف المراحل الدراسية كانت من بين اهم المواد الأنسانية التي تعرضت الى التشويه والتزوير، عبر فرض رؤى وتفسيرات جاهلة وسطحية للعديد من زوايا ومفاصيل الحوادث التاريخية المهمة.

وقد ابدى النظام اهتمامه الكبير بالتاريخ منذ مراحل مبكرة ، وذلك عندما دعى الى ما اسماه بالعودة لكتابة التاريخ من جديد وفقاً لمنهج ورؤى محددة، ومبدأ فكر الحزب الواحد والقائد الأوحد. لذلك فقد شهدت الجامعات العراقية حملات تثقيف وغسل دماغ تاريخية وسياسية موجهة ومستمرة من أجل خلق ادوات تاريخية وباحثين للتاريخ ومبشرين بالمشروع الجديد يؤمنون ويعملون وفقاً للرؤى الحزبية ، بل أن الكثير من الاكاديمين أنفقوا الوقت الثمين من أجل تزوير تاريخ العراق القديم والحديث والمعاصر ، حتى ان بعض المؤرخين أصابهم التلوث وهاجس الخوف فتنكروا لكل تاريخهم الاكاديمي والعلمي حينما خرجوا علينا باستنتاجات غاية في التفاهة والتزوير والسذاجة ، حينما صار السومريون عرباً والاكديون عرباً والبابليون عرباً ، ونبوخذ نصر عربياً وسرجون الاكدي عربياً ، حتى الناصر صلاح الدين الايوبي تم سحب الجنسية القومية التي يحملها ، وأصباغ صفة العروبة عليه من أجل ان لاتكون هنالك نماذج رائعة ومتميزة من الشعوب الاخرى ولوكانت شقيقة كالشعب الكردي مثلاً ، ومن يحاول المجادلة وتحكيم النصوص التاريخية والمصادر البحثية فمصيره معروف سلفا ً.

ومن خلال كل هذه التداعيات ( التاريخية ) أرادت السلطات أن تختصر الطريق بنقل المفهوم الجديد للتاريخ الذي تبشر به الى أرض الواقع ، فوجدت أقصر الطريق يكمن في المناهج التعليمية ، وهكذا تبلور هذا المشروع بشكله المرعب، وحيث كانت تهيأ الساحة الوطنية فكرياً ومنهجياً وسلوكياً لخوض غمار المقامرات العسكرية اللاحقة التي أجهزت على العراق وحولته كما نراه اليوم . وكان الاعتماد في ذلك على جمهرة من أساتذة التاريخ الذين حولوا الجامعات العراقية على مدى أكثر من ثلاث عقود الى مصنعاً لانتاج الفكر القومي المنغلق على نفسه .

لقد كانت مادة التاريخ ملعباً وملاذاً لترجمة طموحات مريضة ، وخلق ثقافة تاريخية مزيفة ومزورة وفقاً لقواعد متطرفة وجاهلة لاعلاقة لها بمنهج البحث التاريخي المعروف ، وهذا ما يمكن ملاحظة عند القيام بأي مراجعة بسيطة للمناهج الدراسية المقررة ولا سيما المواد الأنسانية منها ، فمن خلال تصفحنا لتلك المناهج وعلى وجه الخصوص مادة التاريخ ولكافة المراحل الدراسية ، ورغم حذف بعض الفصول والمواد التي كانت تشير بصورة مباشرة الى (رأس النظام) إلا أننا وجدنا العديد من الثغرات والهفوات المهمة والاساسية لاتزال تؤطر تلك المناهج ، ونود تسجيل ذلك من خلال الملاحظات التاليــــــــــة : ــ

3- المؤلفين لهذه الكتب لا تزال اسمائهم تتصدر مادة التاريخ ولكافة المراحل، وكان لهؤلاء الدورالكبير والمشهود في ( عسكرة الجامعات العراقية) وتحويلها الى معسكرات للتدريب وتجنيد الطلبة.
4 ـ تغيب وتهميش وتجاهل حقب تاريخية مهمة لا تتفق مع طروحات النظام في حين يتم أظهار حوادث تاريخية هامشية وفرعية وبشكل ديماغوجي لأنها كانت تتناغم مع النوازع الشخصية للنظام، لذا فمن غير المعقول أن يستمر هذا الطرح التاريخي البعيد عن أساليب البحث العلمي والموضوعي .
5 ـ سياسات الأقصاء التهميش التي تتبناها هذه المناهج ضد القوميات والاقليات
العرقية والدينية التي يتكون منها نسيج المجتمع العراقي، اذ يحتم أن تكون تلك المناهج الدراسية خالية ونظيفة من الأفكار والمفاهيم التي تدعو الى اقصاء الآخرين ونكران اي دور لهم، والاستئثار بما تحقق من منجزات لقومية محددة ، او لطائفة أو مذهب معين . إن الغاء هذه المفاهيم واحلال محلها الافكار والاراء التي تدعو الى قبول الاخرين والاعتراف بدورهم سؤدي دون شك الى تقوية روابط المجتمع العراقي .
6 ـ تحجيم تاريخ العراق وعدم ابراز دورة الحضاري، بأعتباره المهد الاول للحضارات الانسانية، فعندما يذكر اسم العراق في تلك المناهج يتم تصويره وكأنه اقليم أو قرية تابعة الى شبه الجزيرة العربية، والملفت للنظر أن مادة التاريخ للمراحل الدراسية المختلفة تراوحت عناوينها بين التاريخ العربي الاسلامي والتاريخ الحديث والمعاصر للوطن العربي . ولم نشاهد كتاباً مستقلاً يتناول تاريخ العراق القديم أو الحديث أو المعاصربصورة مستقلة، كما تم تجاهل تاريخ العراق الحديث وبشكل مقرف، فلا نجد أظهار واضح عن تاريخة السياسي، او الوزارت العراقية والحياة البرلمانية في الفترة الملكية وعن حرية الاحزاب، وعن تغير الوزارات نتيجة الاضرابات أو الحديث عن ثورة الرابع عشر من تموز وقادتها، وكذلك عدم التطرق بطريقة منصفة وموضوعية الى ثورة العشرين وقادتها الحقيقيين، فأذا كان من المحرمات الحديث عن تلك الثوابت التاريخية في المدارس والجامعات العراقية ومراكز البحوث والدراسات في ظل تلك الحقبة فمن غير المعقول ان يستمر ذلك الى الان .
7 ـ منع تداول الكثير من الرموز التاريخية والادبية والفكرية العراقية لمجرد أنها ذات ميول سياسية أو فكرية محددة لا تتفق مع المفاهيم السلطوية.
8 ـ لاتزال كتب التاريخ ولمختلف المراحل الدراسية عبارة عن تاريخ ملوك وخلفاء
وسلاطين، ولاتجد في تلك المناهج أي دور للشعوب أو المجتمعات البشرية ، والتحولات الأجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كانت تمربها تلك الشعوب و المجتمعات ، اما عندما يذكر ذلك فأن الأمر يتعلق بما يرتبط بتاريخ ذلك الخليفة أو هذا الملك.
9 ـ عبارة من سرد تاريخي للحروب والمعارك والوقائع وأحاديث وروايات طويلة
وسقيمة عن أبطال خرافيين فازوا في جميع حروبهم ولم يستطيع أي انسان يهزمهم في الماضي ولم يستطيع ان يهزمهم في المسقبل، ان طرح الاحداث بهذه

الطريقة الغير موضوعية سوف يترك في ذهن الطالب بأن هولاء القوم قد خلقوا
للحرب والقتل والدمار وهذا ماكان يوحي به النظام السابق الى عقول الطلبة كي
يتماشى مع مشروعه التدميري .
10 ـ وجود أرباك واضح وعدم أنسجام بين الفقرات التي تم حذفها والفقرات التي تم اضافتها مما يدل على أن العملية قد تمت بسرعة ودون دراسة مستفيضة، لذا يجب أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار في الطبعات اللاحقة .
11 ـ عند التطرق الى تاريخ العراق الحديث والمعاصر لا نجد ذكر لتلك المآسي التي أرتكبت في تلك الفترة ، ومنها الحروب العبثية والمقابر الجماعية، وهذا الأمر يتعلق بتاريخ العراق المعاصر . أن فكرة أضافة تلك المواد الى المناهج الدراسية أصبحت ضرورة ملحة واستحقاق تاريخي، ولاهمية الموضوع يجب ابراز ذلك يشكل واضح وجلي.

وخلاصة القول ان أصلاح النظام التربوي والتعليمي في العراق يعد من أهم المهمات التي تنتظر المجتمع العراقي كي يتخلص من تلك المفاهيم الطوباوية ، وهذا لن يتم بمجرد اجراء عمليات تجميلية بسيطة، وأنما باعادة النظر بكل المناهج وباساليب التعليم والنظريات التي تدرس وانطلاقا من ذلك فأن الواقع يفرض أثناء عملية البناء الديمقراطي في العراق وضع الخطط والحلول العاجلة للمؤسسات التربوية والتعليمية مع الاخذ بنظر الاعتبار عدم الارتجال في وضعها، وأبعادها عن العواطف القومية والتأثيرات الدينية والمذهبية .


2- ما تزال الانفاس التي تنطلق من مبدأ التفوق على الآخرين ، وأظهار القوة المفرطة تـُغلف تلك المناهج ولان مثل هذه الطروحات غير حقيقة ، أو لانها محاولة للحد من قدر الاخرين بشكل غير مباشر فأن الضرورة تقتضي ولفائدة الاجيال القادمة الغاء كل الجمل والعبارات التي تؤدي الى غرس هذه المفاهيم في اذهان الطلبة والشبيبة
.
1- اهم ما يمكن ملاحضته هو بقاء مضامين المادة التاريخية والفكرية على حالها والتي كانت تحتويها المناهج السابقة ، وكل ما جرى هو حذف لبعض الفقرات والمصطلحات دون تغيير المضمون .

ليست هناك تعليقات: