الأربعاء، 9 يوليو 2008

جـِـــراحات سومرية

جـِـــراحات سومرية

ياسين العطواني

يبدو ان جراحات الجنوب الغائرة لا يراد لها ان تندمل ، وكأن قدر أهل أوروك الذين خرجوا من بطون حضارة القصب والكتابة الحجرية وأغوار الأهوار ، أن يكونوا أشقاء تلك النمطية التي أعقبت أندثار مملكة سومر . ولو قُـــُـدر لآلهة الحب والجمل والخصب عشتار الخروج من لحدها ومن حندس ذلك الليل السومري الموغل في مغارات الزمان والمكان ، وهي تجوب الحقول بخفَّة ورشاقة، فتتفجَّر الينابيع خلفها بالماء والعطاء، وتُزهر الأرض بالسنابل والنماء، لترى مواطنتها وحفيدتها ( بدرية) وقد لفت تلك الأطمار البالية جسدها الهزيل الذي فقد الأنوثة بفعل شــَضف العيش وقساوة الحياة ، لبكت وابكت من حولها على هذه الفجيعة الكبرى التي اصابت تلك المماليك الخوالد من بلاد سومر واكد . وعندما يتسنى للمشرع العظيم وباني الزقورات والمدن المرحوم أور نمور التجول في ربوع السلالات السومرية، ومملكته الشهيرة أور لأُصيب بالذهول ونوبات الجنون ، على هذا الهول الكبير الذي حــّل بتلك الديار، فقد ترك تلك المماليك عامرة البنيان واسعة العمران ، يسودها القانون والعيش الرغيد، وها هي اليوم اصبحت أثر بعد عين ، إلا ما خلف الأجداد للأحفاد من صروح ٍ عظيمة، ومعالم شاخصة ، أذا ما قورنت بما حولها من خرائب القرن الحادي والعشرين ، فهذا الجنوب يكاد لا ينتمي الى القرن الذي نعيش فيه، وخصوصا ً تلك المدينة التي تـُـسمى بالعمارة ، فتلك البلدة وأسمها الذي يوحي بالأعماروالبناء، إلا ان الشواهد التاريخية والآثار الباقية تؤكد على انها كانت اكثر تقدم ورقي ومدنية في الألف الثالث قبل الميلاد مما هي عليه اليوم في العصر الألكتروني والرقمي، على اعتبار انها كانت احدى الحواضر السومرية التي ظهر فيها الحرف والكتابة والقانون والعجلة لآول مرة ، في الوقت الذي كانت فيه الكثير من الشعوب والجماعات البشرية تعيش في المغارات والكهوف بما فيهم الذين دخلوها في يوم ٍ ما محررين اوفاتحين كما ادعوا ، في حين لا نرى أثراً لحضارة العصر ، والمظاهر المدنية في ربوعها ، فقد أعتــُمدت سياسة الأهمال المقصودة طوال العقود المنصرمة ، واتـُـخذ من عرصاتها ميدانا للرماية ، وخانات لتكديس الأسلحة ، ومن مزارعها حقولا ً للألغام ، ولم يعترف بهوية وآدمية وعراقية الأنسان الذي سكنها . وكان يجيء بالحاكم من وراء الحدود، وكأن أرحام السومريات قد عــُقدت ولم يــُنجبن من الرجال إلا لمن أُُعد للمحارق والحروب . وهكذا لم نجد بناءا ً يعلو فوق جنائن بابل المعلقة او زقورة أورنمو المتدلية ، أوتلك ( الإيشانات) الشاخصة التي تحكي قصة الحضارة وتذكر من حولها ما وصل اليه انسان وادي الرافدين من تقدم ورقي.

وقد أستوقفت تلك التراجيديا الجنوبية بعثة انسانية ايطاليه أتت من رحم فينوس آلهة الحب والجمال لروما الحضارة والتاريخ ، تلك الحضارة الكونية ، توأم حضارة وادي الرافدين. ويظهر ان هنالك رابط روحي يجمع بين الحضارات الأنسانية القديمة ، وهذا ما ظهربشكل ٍ جلي على محيا وسلوك اولئك الرجال الذين ينتمون الى تلك البلاد. والشيء الملفت للنظر ان هؤلاء الناس كانوا على إطلاع ومعرفة بتاريخ وديموغرافية تلك المناطق وسكانها ًاكثر من ساكنيها ، ولا سيما مناطق الأهوار وما تعرضت له ، عندما ألغى الجهل والتخلف والبداوة حضارة يرجع تاريخها الى ما يقارب الخمسة آلاف سنة . وبعد ان تبين لهم حجم المأساة الأنسانية التي يتعرض لها سكان بعض القرى والأرياف التابعة لمدينة العمارة ولا سيما البيوت التي يسكنونها والتي هي أوهن من بيوت العنكبوت، ومما شده انتباههم وفزعهم هي كيفية قضاء (حاجة الانسان) في تلك القرى ، بعد ان رأوا ما رأوا...! وبما انهم لا يملكون من الناحية المادية تلبية جميع احتياجات سكان تلك المناطق ، اخذوا يعملون بالأهم والممكن ، فعمدوا الى انشاء مرافق صحي ( تواليت) في كل دار ، بعد تهيئة وتوفير جميع متطلبات العمل، ومما يثير الأعجاب والتأمل الطريقة التي بــُنيت بها تلك المشيدات، وآلية التصميم والتنفيذ، والتي اتمنى على الدوائر الحكومية المعنية و مجالس الأعمار في البلاد ان تأخذ بها، لما تحتوية من دروس وعبر، وان تتبني هكذا مشاريع، بعد دراسة الجدوى الأقتصادية والأجتماعية والأنسانية المتحققة من وراء ذلك.

ويبدو ان افراد هذه البعثة قد تناهى الى مسامعهم حالة الفساد الأداري والمالي المستشري في البلاد ،وطبيعة المناقصات وما يترتب عليها من مقاولات (أرهابية ) ووهمية ، نعم ، فالكثير من المقاولات لا تقل ارهابا عن الأرهاب التقليدي ، لما تسببت به من تعطيل وتباطؤ للكثير من المشاريع العمرانية والبـُـنى التحتية بحجج وذرائع واهية. لذلك اختصروا الطريق وتجاوزوا كل تلك المتاهات ، وقاموا بالتنفيذ المباشروضمن السقف الزمني المحدد ، بعيدا عن اشراك السلطات المحلية في تلك المناطق ، وقد استعانوا بخبرات (الأسطوات) للقيام بهذه المهمة ، وتوصلوا معهم الى الكلفة الحقيقية للبناء الواحد، دون زيادة او نقصان ، الى درجة تحديد عدد الطابوق وكمية الأسمنت المستخدم وبالأرقام ،وهكذا بقية الأحتياجات .

وبعد التوكل على بركة الله بدأت عملية البناء وماهي إلا ايام ٍ معدودات حتى غدى البناء شامخا ً من بين تلك الأكواخ المتهرئة ، واضحى اهم معلماً حضارياَ يشار له بالبنان في تلك المناطق المنكوبة ، واخذت الأبسامة والبشاشة تعلو وجوه الأطفال والنساء والرجال، مع أكـُف ٍ مرفوعة بالدعاة الى اولئك الجنود المجهوليين الذين اخذتهم الغيرة والنزعة الانسانية الأنتصار الى مضلومية هؤلاء القوم . ومما يجدر ذكره هنا، ان حجم المبالغ المخصصة في هذه العملية تكاد لا تذكر مع حجم التخصيصات المرصودة لهذه المناطق من جهات حكومية و دولية ، والتي نسمع عنها كثيرا ً ولا نرى لها اثر في الواقع ، وعلى الرغم من رمزية الحدث إلا ان ما تركه من أثر نفسي ووجداني لأبناء الجنوب كان كبيرا ً وعميقا ً.

ويبدو ان موسم القــِطاف لم يحن بعد لأهل الجنوب ، فما زال المطر حَــبيسا ًوالأرض مُجدبة ، بعد ان كانوا يمنون النفس بإنزياح عالم عتيق عن كاهلهم، عالم كان مصنوعا ً من رجال أمن وحزبيين وليالي تـُــخيف وبساطيل عسكر ، وعيون تنظر بكلبية لا تصدق ، وان عالما قديما قد انهار ، وكانت الآمال متفتحة على أمنيات شتى بعد أنزال الوثن عن منصته. وكانوا يحلمون بمن يختصر التاريخ لهم ، ويـُـسعف الجراحات الغائرة، وله القدرة على تحويل النبوة الى حركة رسولية تحتضن الجميع، وتحول ذلك الى مشروع اجتماعي وسياسي وثقافي يحرص على ارواح الناس ومشاعرهم المكبوته عبر الأجيال.

أهل الجنوب كانوا بإنتظار البديل الذي سيخرج من اصالة جوعهم للحرية وأرتقائهم الأنساني للكرامة ، ومن حبهم الكبير لتراب أور ولارسا وكيش وهور الحمار والجبايش. فألى متى يبقى أبن الجنوب على مصاطب الأنتظار ، فمنذ ان خرج كلكامش يبحث عن عشبة الخلود وهو يلوك المرارة ، ويمضغ الألم الكوني كله، ويموت ألف مرة بفعل النازلين على دمه ولحمه وكينونته من دون ان يكون للمقربين منه إسهاما في انقاذه . وبعدُ ، أما آن للجراحات السومرية أن تندمل...!؟ .

Yaseen63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: